الشراء المستدام بين اعتبارات حياد الصفقات العامة ومتطلبات التنمية المستدامة

أيمن فتحى

القانون العام - الحقوق - الإسكندرية

الملخص

1.ظهور مبدأ التنمية المستدام. شغلت التساؤلات المتعلقة بآفاق التنمية الاقتصادية أذهان الباحثين منذ فترة ليست بالقصيرة، لاسيما التساؤل المتعلق بمدى قابلية النموذج الاقتصادي العالمي للاستمرار في الازدهار بالنظر إلى السمة المحدودة لمصادر الثروة الطبيعية. ومن ثم فقد اتجهت الدراسات للبحث عن حل لمعادلة صعبة طرفيها الحاضر والمستقبل، في ظل موارد طبيعية محدودة، بما يكفل استمرار التنمية الاقتصادية والاجتماعية على المدى الطويل. وهكذا، فقد انعقدت الأمال على مبدأ التنمية المستدامة منذ ظهوره لأول مرة على الساحة الأممية الدولية في تقرير لجنة برتلاند لعام 1987، في تقديم الحل لهذه المعادلة. وذلك عن طريق توجيه التنمية الاقتصادية نحو مراعاة الأهداف المرتبطة بالتنمية الاجتماعية، ودون إهدار للاعتبارات المتعلقة بحماية البيئة والحفاظ عليها. وتعلق منظمة الأمم المتحدة على هذا المبدأ أهمية كبيرة، باعتباره السبيل الأمثل المتاح لتحقيق التوازن بين التنمية الاقتصادية، والتنمية الاجتماعية، وحماية البيئة والمحافظة عليها. ولذلك فليس من المسغرب أن يتصدر هذا المبدأ جدول أعمال قمم الأرض التي تلت ظهوره، بل وأن تتخذه هذه القمم شعاراً لها. وعند هذا الحد يثور التساؤل حول كيفية تطبيق مبدأ التنمية المستدامة، وتحويله من مجرد مفهوم نظري واسع إلى تطبيقات على أرض الواقع. 2.الشراء المستدام باعتباره أحد تطبيقات التنمية المستدامة في مجال الشراء الحكومي. وفي إطار الإجابة على هذا التساؤل، فإن المؤتمرات الدولية انتهت إلى نتيجة معينة، وهي أن الدفع بعجلة التنمية في طريق الاستدامة يتطلب أولاً وقبل أي شيء تغيير في أنماط الاستهلاك، وذلك بالانتقال من نمط للاستهلاك غير المسئول إلى النمط المسئول الذي يتوافق مع الاعتبارات التي يقوم عليها مبدأ التنمية المستدامة. هذا التغيير سيؤدي إلى خلق طلب على السلع والمنتجات التي تراعي الأبعاد الثلاثة التي يقوم عليها مبدأ التنمية المستدامة: الاقتصادية، الاجتماعية، البيئية. وهو ما يدفع إلى تغيير مقابل في طرق الانتاج التي تزود جانب العرض المقابل للطلب. بعبارة أخرى، فإن الدفع بعجلة التغيير في هذا الطريق سيقود إلى خلق سوق اقتصادية تتداول فيها سلع تتسم بالفاعلية الاقتصادية وتراعي العدالة الاجتماعية وتكون أكثر حفاظاً على البيئة. وفي المقابل، فإن هذا التغيير في أنماط الاستهلاك والانتاج يتعين أن يجد له مشجعاً وراعياً بالنظر إلى التكلفة الاقتصادية الكبيرة المرتبطة بهذا التحول في أنماط الانتاج والاستهلاك. وهنا تتجه الأنظار إلى الشراء الحكومي باعتباره يشكل جانب كبير من إجمالي الطلب في السوق الداخلي للدول. فالسوق الحكومي قد يصل في المتوسط إلى نسبة 20 بالمئة من الناتج المحلي للدولة. ويكفي لكي ندرك حجم هذا السوق أن نشير إلى أن هذا السوق يشمل علاوة على التعاقدات الحكومية التقليدية التي تبرمها الدولة وتبحث من خلالها عن الوفاء باحتياجات مرافقها العامة مثل عقود الاشغال العامة والتوريد وأداء الخدمات، عقود الامتياز سواء في ثوبها التقليدي أو حتى المتطور، وكذلك عقود الشراكة بين القطاع العام والخاص. ومن هنا أخذ مصطلح الشراء المستدام، باعتباره يشير إلى التعاقد على سلع وخدمات تتميز بالفاعلية الاقتصادية وتراعي في ذات الوقت الأبعاد المتعلقة بالتنمية الاجتماعية وبالحفاظ على البيئة، في غزو التشريعات الداخلية المنظمة للتعاقدات الحكومية لدول العالم المتقدم والنامي على حد السواء. ولعل أبرز ما يميز السوق الحكومي بأن الدولة تظهر فيه باعتبارها المستهلك أو رب العمل، أكثر من دورها باعتبارها القائم على أمر السوق، وهو الدور الذي تعلبه على مستوى السوق الوطني ككل. ومن ثم فإن تبني القوانين المنظمة للتعاقدات الحكومية لمبادئ مثل التنمية المستدامة، بما يتضمنه ذلك من مراعاة لاعتبارات التنمية الاجتماعية والحفاظ على البيئة، في ظل من اقتصاد السوق القائم على المنافسة، من شأنه أن يؤدي لخلق أنماط معينة من السلوك في مجال معين يتسم بالخصوصية، وهو مجال التعاقدات الحكومية. ولكن أهمية تبني القوانين المنظمة للتعاقدات الحكومية لمبدأ التنمية المستدامة تتجاوز الهدف السابق، المتمثل في فرض أنماط معينة من التعاقد في مجال التعاقدات الحكومية، لتتعدى ذلك إلى تقديم نموذج لما ينبغي أن يكون عليه الاقتصاد الوطني ككل. بعبارة أخرى، فإن هذا التدخل تتجاوز أثاره مجرد فرض الأهداف السابقة في مجال التعاقدات الحكومية، وإنما توجيه الاقتصاد الوطني في خارج مجال التعاقدات الحكومية نحو الأخذ بعين الاعتبار الأبعاد المتعلقة بالتنمية المستدامة، وهو ما قد يؤدي على المدى البعيد إلى خلال خلق نموذج أمثل لأداء الاقتصادي الوطني. 3.العقبات التي تواجه فكرة الشراء المستدام في مجال التعاقدات الحكومية. ولكن تطبيق فكرة الشراء المستدام في مجال التعاقدات الحكومية قد تصطدم بالعديد من العقبات الاقتصادية أوالقانونية أو حتى الإدارية. فعلى المستوى الاقتصادي، فإن السوق الحكومية باعتباره المجال الذي تسعى الدولة فيه إلى اشباع حاجاتها الإقتصادية، تسيطر على تنظيمه عدد من الأفكار التقليدية النابعة بالاساس من الرغبة في حماية المال العام وحسن إنفاقه. ومن المعلوم أن تبني النمط الاقتصادي السابق يصاحبه بلا شك ارتفاع، على الأقل على المدي الزمني القصير، في الانفاق الحكومي. وهنا تطرح تساؤلات حول جدوى الشراء المستدام في تحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، على أرض الواقع، على ضوء تضاعف الإنفاق الحكومي. أما من الناحية القانونية، فمن المعلوم أن سوق الشراء الحكومي تسيطر على تنظيمه عدد من المبادئ القانونية، وهي: حرية الدخول للصفقات العامة، والمساواة في المعاملة بين المتقدمين، وشفافية الإجراءات. هذه المبادئ دفعت منذ زمن في سبيل اعتبار المناقصة هي السبيل الأول للتعاقد على شراء السلع والخدمات. وهنا تثور تساؤلات متعددة حول ما إذا كان هذا الشراء المستدام من شأنه تقييد المبادئ القانونية التي تسيطر على الصفقات العامة، ولعل أبرزها مبدأ حرية الدخول إلى الصفقات العامة. ومن ناحية أخرى حول مدى توافق نظام المناقصة في ثوبها التقليدي مع الانتقال إلى الشراء المستدام، بما تتضمنه من مبدأ آلية الإرساء على العطاء الأقل من الناحية السعرية. وهو ما يؤدي لإعادة طرح التساؤل حول معيار العرض الأقل والعرض الأجدى من الناحية الاقتصادية. ونبقى في الشق القانوني، مدى مشروعية استعمال الاموال العامة في مجال الشراء الحكومي، لتحقيق أهداف أخرى فرعية بخلاف الهدف الرئيس المتمثل في الوفاء بالاحتياجات الاقتصادية للمرفق العام. أما من الناحية الإدارية، فإن هناك تساؤلات عديدة تثور حول مدى تأهيل الإدارات المسئولة عن التعاقد بالمرافق العامة للتعامل مع هذه الأنماط من الشراء. وحول الضمانات التي يمكن أن تمنع الفساد الإداري.

الكلمات الدالة

" التنمية المستدامة" "الشراء المستدام" " العقبات أمام تفعيل سياسة الشراء المستدام"