التحديات القانونية لترقية الاستثمار من خلال تشجيع ظاهرة تركيز المشروعات الاقتصادية " دراسة فقهية تشريعية مقارنة "

هارون أوروان

الحقوق - كلية الحقوق والعلوم السياسية - جامعة يحي فارس بالمدية- الجزائر

الملخص

إن التطور التكنولوجي الذي يشهده العالم اليوم وتوفر وسائل الاتصال والتواصل، وحرية حركة رؤوس الأموال داخل الدولة وخارجها، بالإضافة إلى الرخاء الاقتصادي لاسيما بعد الحرب العالمية الثانية، قد أثر بشكل مباشر على شكل ونوعية العلاقات التجارية، حيث تخلت هذه الأخيرة في الكثير من الاحيان عن صورتها البسيطة، وباتت تتسم بالتعقيد والتركيب الشديدين، وقد ساهم ذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة في ابتكار أطر جديدة للعمل التجاري على الصعيدين الوظيفي والعملي. هذا التعقيد والتركيب في العلاقات التجارية، يمكن معاينته من خلال القوالب القانونية التي أصبحت تتخذها أطراف هذه العلاقات، على رأسها الشركات التجارية التي أضحت من أهم مظاهر الحياة الاجتماعية وتشكل عصب الحیاة الاقتصادية، التجارية والمالية سواء على الصعيد الداخلي أو حتى الخارجي. ولعل أهم الاسباب التي ساهمت في ترسيم هذا الدور المتميز للشركات التجارية هو طفو الفلسفة الفردية، وما خلفته من انعكاسات بالغة الأهمية على مبدأي الحرية الاقتصادية ومبدأ سلطان الإرادة، اللذان يشكلان أهم الركائز التي يقوم عليها النظام الرأسمالي بصورتيه التقليدية والحديثة، فالشركة التجارية ظهرت بمعناها الحديث كنظام يتعلق بالرأسمالية الحرة. وقد أخذت أهمية الشركات التجارية تتزايد بشكل مستمر في مختلف صور الحياة العامة، وبرز دورها الذي لا يمكن الاستغناء عنه في أي مجتمع من المجتمعات المعاصرة، بحيث أصبحت تشكل جزء من النسيج الاقتصادي للدول، باعتبارها الوعاء القانوني الأمثل لاستقطاب رؤوس الأموال وتوظيفها في أضخم المشاريع نظرا لتمتعها بخصائص قانونية لا تتوفر عادة لدى الأشخاص الطبيعية. فقد أثبتت التجارب الانسانية في مجال المعاملات التجارية أن تجمع أكثر من شخص يؤدي إلى تحقيق نتائج لا يمكن للشخص تحقيقها منفردا، فالمشروع الجماعي أقدر من المشروع الفردي على مضاعفة الأرباح، من خلال قدرته على تجميع رؤوس الاموال اللازمة للنهوض بالمشاريع الضخمة من جهة، ومن جهة أخرى تخفيف حجم المخاطر التي يعرفها عالم التجارة والأعمال. ولعل أهم أنواع الشركات التجارية رواجا هي شركات المساهمة، إذ تعد أينع ثمرة للنظام الرأسمالي تمكن بفضلها من التغلغل والتوسع على المستويين الداخلي والدولي، ذلك أنها الاقدر بين كل أنواع الشركات الأخرى على تجميع رؤوس الأموال وتركيزها، كما كانت ولازالت تشكل الأداة القانونية المثلى لتحقيق سيطرة رأس المال اجتماعيا وسياسيا. غير انه وبالرغم من المركز المتميز الذي تحتله شركة المساهمة بين باقي الأشكال القانونية الاخرى للشركات التجارية، إلا أننا بدأنا نلمس بوادر عجزها ومحدوديتها في مسايرة ومجاراة التطور الكبير الذي عرفه عالم الأعمال لاسيما في النصف الثاني من القرن الماضي، بحيث أصبح من الصعوبة بمكان على شركة واحدة، من خلال هياكلها الإدارية ومكناتها الاقتصادية والمالية وحتى الفنية والتكنولوجية، أن تنجز وتحقق مشاريع اقتصادية ضخمة تتجاوز في كثير من الأحيان حدود الدولة الواحدة، خاصة في ظل احتدام المنافسة بين المشروعات على المستوى المحلي والعالمي، وسعيها الدؤوب إلى السيطرة على السوق واحتكاره. فالنظام الرأسمالي بوجهه الجديد يقوم على فكرة التوسع والامتداد الذي تتميز به المشروعات، أين بات المشروع الكبير يعتبر المحرك الرئيسي والفعال لتحقيق التقدم الاقتصادي هذا ما أدى إلى ظهور منشآت اقتصادية عملاقة تتكون عبر تركز وتمركز رؤوس الأموال. وقد عبر عن ذلك العميد هامل بعبارات مشهورة قال فيها …»هل ستبقى شركة المساهمة التي تشكل اليوم الخلية القاعدية في عالم الاعمال في نفس مكانتها، أعتقد أن مكانتها قد اهتزت بصورة جدية، لا سيما بظهور مجموعات اقتصادية كبيرة مكونة من اتحادات شركات مساهمة عديدة «…. وعلى هذا الأساس وحتى تتمكن الشركات التجارية من مواجهة هذه التحولات، وتضمن استمراريتها وتعزز قدرتها على النمو وتدعم إمكانياتها على التنافس، وتجعلها تتكيف بصورة مستمرة مع التطورات والتغيرات الاقتصادية المبتكرة، تكون أمام حتمية تطوير عملياتها وأدائها وإعادة تنظيم هياكلها، وذلك بلجوئها الى التكتل فيما بينها، في إطار ما أصبح يعرف لدى الاقتصاديين ورجال القانون بمصطلح التركيز الاقتصادي. ولم یعد الغرض من إنشاء الشركات التجارية يقتصر على تحقيق الربح بمعناه التقليدي البسيط فحسب، بل تعداه لتحقيق أهداف اقتصادية تتمثل خصوصا في تركيز المشروعات الاقتصادية، وهذا عكس ما كان عليه الوضع في السابق، حيث كان الدافع الرئيسي الذي يحفز الشركات التجارية على التكتل والتركز هو الرغبة في احتكار السوق، لكن هذا الدافع أصبح اليوم محظورا بموجب معظم التشريعات الوطنية، وذلك لحماية المستهلكين، ومنع السيطرة على رأس المال. إلا أنه في الوقت الراهن ظهرت دوافع يمكن أن تصنف على أنها إيجابية، حيث أصبحت الشركات تتكتل فيما بينها لتحقيق الأهداف التي تعجز عن تحقيقها بمفردها عن طريق توحيد جهود الانتاج، من أجل احتلال وضعيات اقتصادية مفضلة في أسواق المنتجات والخدمات تمكنها من مواجهة المنافسة التي تفرضها باقي التجمعات الاقتصادية. فالتكتل اليوم بات من المظاهر الصحية من أجل ضمان القدرة على النمو والاستمرارية، وتحقيق نوع من التوازن والاستقرار في الأسواق التجارية. ويهدف التكتل غالبا إلى تحقيق اقتصاديات الحجم الكبير ووضع حد للمنافسة بين الشركات العاملة في نفس النشاط، أو بقصد احتكار منتوج أو خدمات معينة، أو بهدف خفض تكاليف النشاط وتوحيد سياسة الإنتاج، ويسمح ذلك للشركات المتكتلة باقتحام أسواق جديدة واستقطاب رؤوس أموال إضافية، كما أنه يزود الشركة بوسائل تكنولوجية متطورة. فالقدرة على مقاومة المنافسة تكاد تنعدم لدى الشركات التي تنشط منعزلة غير متكتلة، وذلك لأن التكتل يخفف حجم المنافسة بين الوحدات الاقتصادية لاسيما المتماثلة الغرض، فالتنافس بين الشركات قد يكون في الكثير من الأحيان انتحاريا، خاصة إذا كان النشاط يمارس في سوق ضيقة تكون فيها الشركات المتنافسة عاجزة عن الانتقال بنشاطها خارج حدود الدولة، فبالرغم من الميزات التي يحققها مبدأ المنافسة إلا أنها قد تحمل بين طياتها مجموعة من المخاطر يمكن أن تلحق أضرارا بالمتنافسين وحتى على الاقتصاد الوطني. ونجد أن عمليات التركيز الاقتصادي تعتبر من أهم مقومات النهوض بالاقتصاد الوطني، وذلك لأن التكتل يعتبر وسيلة من وسائل استقطاب رأس المال الأجنبي، كون أن هذا الأخير يفضل الدخول في شراكة مع الوحدات الاقتصادية المحلية سواء ذات رؤوس الأموال العمومية أو الخاصة، بدل المغامرة بالاستثمار في بلدان غريبة من جهة، ومن جهة أخرى تسمح عمليات التركيز الاقتصادي بخلق كيانات اقتصادية عملاقة ذات طابع محلي قادرة على التصدي لتحديات المنافسة الأجنبية سواء على الصعيد الإقليمي أو حتى العالمي. وعلى هذا الأساس نجد أن كل الدول تحرص وتراهن على خلق بيئة ملائمة لتشجيع مثل هذه الظواهر الاقتصادية، وذلك من خلال توفير كل الضمانات القانونية والاقتصادية لتطوير هذه المشروعات وتنميتها قصد ترقية قطاع الاستثمار الداخلي والاجنبي. سنحاول من خلال هذه المساهمة المتواضعة، تسليط الضوء على مختلف الجوانب القانونية لعمليات تركيز المشروعات الاقتصادية، وذلك من خلال التدقيق في الأساليب والتقنيات القانونية التي أصبحت تعتمدها هذه الشركات في سبيل تركيز مشروعاتها، ومحاولة ايجاد مقاربات علمية ما بين المفاهيم القانونية المستقرة، ومدى فاعليتها في تشجيع هذه الظاهرة التي أصبحت تشكل عصب الاقتصاد المعاصر. كما سنعالج مدى ضرورة استحداث مبادئ قانونية وآليات تشريعية قادرة على ضمان ترقية هذه الظاهرة الاقتصادية المبتكرة، والتدقيق في مختلف المحاولات التشريعية والفقهية التي بادرت إلى معالجتها، وستتوج دراستنا بخاتمة تتضمن أهم النتائج التي تم التوصل إليها وتقديم الاقتراحات الملائمة.

الكلمات الدالة

ترقية الاستثمار , تركيز المشروعات الاقتصادية , التركيز الاقتصادي , الشركات التجارية